منصور النقيدان
من شبه المستحيل اليوم إقناع العرب لأنفسهم، والمسلمين لذواتهم، وللعالم من حولهم، بأن ما يعيشونه وما يصنعونه بأيديهم من دمار وانهيار واقتتال واستئصال ديني ومذهبي، وتدمير للمدنية وسحق للمعالم الحضارية، ومن تمييز مذهبي وتصفية عرقية، ليس إلا مؤامرة خبيثة بدأت خيوطها منذ سقوط الخلافة العثمانية، بل من نهايات القرن التاسع عشر، وربما أبعد من ذلك التاريخ، إلى الحروب الصليبية، بل إلى أبي لؤلؤة المجوسي وعبدالله بن سبأ. وهناك من يعزو بداية البلاء إلى ما قبل ظهور الإسلام ربما بألفي عام!
في مراهقتي وشبابي كان يمكن لجيلي أن يؤمنوا بأن التخلف الذي نعيشه والانهزامية التي نتمرغ بها، والقابلية للاستعمار هي نتاج مؤامرات لا تتوقف، خُططت بمهارة فائقة، وجاء التاريخ من بعد، وصيرورته وتحولاته، وصُدفه وحظوظ الأعداء، مشفوعة بذنوبنا وآثامنا الشخصية وضعف علاقتنا بالله، لتمنح تلك المخططات التحقق. إن كل هذا لا يفيد ولا يغني اليوم، لأن ما نراه وما نلمسه ونسمعه، يؤكد أن تلك الأوهام كانت غشاء وباباً يحول دون رؤية الحقيقة المؤلمة، أننا بأنفسنا دمرنا كل الأشياء الجميلة التي كانت يوماً تصنع عالمنا.
من جهة أخرى يبدو أنه من شبه المستحيل إقناع أنفسنا أن ما نراه من تمدد فارسي، وإفساد وتحطيم لكل ما يعبر عن حضارة العرب، عن جمال هذه الشعوب، عن غناها وعن تسامحها، وعن سحرها، وتنوعها ليس ذا دوافع دينية وقومية عنصرية، كما أنه ليس من احترام الذات أن نصدق أن ما تعانيه الأقليات المذهبية التي تعيش بيننا من تهميش وتمييز وتحقير وتكفير لن يكون سبباً في سرقة أبنائها، وتجنيدهم لأهداف ومصالح الأعداء الذين يدغدغون مشاعرهم ويتلاعبون بهم ويمنونهم، ويستثمرون أحقاداً صنعتها سياساتنا ومدارسنا وإعلامنا لكي يكونوا وسيلة تدمير ضد أوطانهم ومجتمعاتهم.
التاريخ والحاضر متخمان بأمثلة مشابهة لما يحصل اليوم، أيْ إجهاد الذهن والملكات واعتصار الأدمغة لمغالطة الذات، ولخلق الأوهام، لتكذيب ما تراه العين، وتسطره الأقلام، وتفُوه به الألسن، فما تعيشه اليوم أوروبا من أحداث إرهابية ومن تجنيد لأبنائها المسلمين الأصليين أو المتحولين، لا يمكن البتة فصله عن المسلمين، ولا عن الإسلام، أو على الأقل فصله عن تفسير المنخرطين للإسلام وكيف يطبقونه ويفهمونه. ونسمع كثيراً عن الشكوى من استهداف المسلمين، وأن الواجب الفصل بين المسلمين وبين الإسلام، هذا أولاً، وثاني المطالب هو الفصل بين المسلمين وبين أبنائهم الذين جندوا أنفسهم للإضرار بأوطانهم ومواطنيهم! إن كون معظم ضحايا الإرهاب في العالم العربي والإسلامي هم من المسلمين لا يفيد شيئاً، لا يبريء الذات، ولا يبعد التهمة، بل هو باعث للسخرية والشفقة والاشمئزاز. في عالمنا العربي الذي يمكن فيه خلال عام واحد فقط، أن تتحول جماعة إرهابية في أول العام إلى حليف في الدفاع عن الوطن قبل نهايته! في هذا العالم المتخم بالغرائب الذي يسعى اليوم بعض من أبنائه النابهين المثقفين، الذين يرون أنفسهم مستنيرين ويصفهم الإعلام الغربي بالاعتدال، يسعى هؤلاء إلى اعتبار «القاعدة» و«النصرة» تياراً وسطياً!
لطالما شعرت باحترام كبير للمفكر الجزائري مالك بن نبي الذي أثرت نظرياته وفلسفته في كثير من المثقفين والمفكرين من بعده، عن شروط الحضارة، وأسباب قابليتنا للاستعمار، ومستقبل الأفكار في العالم الإسلامي، ولكنه ويا للأسف كان قد كتب عام 1951 وقبل وفاته باثنين وعشرين عاماً كتاباً نقض فيه كل ما كتبه من بعد. كان مالك بن نبي قد أعيته الحيلة مرات عديدة في أن يجد وظيفة مرموقة في فرنسا بعد تخرجه، ولكنه واجه المشكلة ذاتها بعد عودته إلى وطنه. بقي هذا الكتاب «وجهة العالم الإسلامي- المسألة اليهودية» في الأدراج حتى وجد طريقه إلى النشر في عام 2013، يربط فيه الفيلسوف الكبير كل أزمات المسلمين، وتخلفهم منذ الحروب الصليبية بمؤامرات اليهود التي بدأت من السنة الأولى للهجرة ولم تتوقف!