منصور النقيدان
في أبريل في العام 2006، شاركت في مؤتمر في العاصمة الأردنية حول الإصلاح والديمقراطية، شارك فيه إسلاميون سنة وشيعة، عرب وإيرانيون، ليبراليون وإصلاحيون وغيرهم. كان الشريف أبو زيد المحطوري اليمني واحداً ممن شاركوا في المؤتمر، ألقى ورقة عن التكفير عند السلفية في اليمن مع لمحات عن وضع الزيدية في اليمن، كان بزيه اليمني الجميل الأصيل، مع إمام وخطيب المسجد الأقصى بجبته وكوفيته يلفتان الأنظار.
ولأنني كنت ملاصقاً لأستاذين أردنيين إسلاميين، كانا متحفظين في حديثهما ويهمسان همساً، وكنت أشعر بأنهما غير مرتاحين لوجودي، فقد تعمدت استفزازهما بتوجيه الحديث إليهما بلهجة «قصيمية» قحة، فوجها سؤالاً إليّ من أي مدينة في السعودية أنا، فاختصرت الإجابة وقلت «وهابي من بريدة». ومع أنهما ابتسما وأشارا إلى أنهما لا يقصدان التشكيك في انتمائي الطائفي، إلا أنهما عادا بعد دقائق بصوت مسموع أكثر متحدثين عن شيعة العراق وولائهم لإيران، واستهداف السنة بعد الاحتلال الأميركي.
كان على يميني سيد معمم هو المرحوم هاني فحص الذي عرفته أول مرة عن قرب، والذي كانت تعليقاته رسالة حب وأمل تسبغ علينا بعضاً من الطمأنينة في مثال قل نظيره من التسامي والخوف على العروبة وانهيار السلم الاجتماعي، كان أبو زيد المحظوري قريباً مني في المؤتمر وفي الورشة وفي الاستراحات، التي كانت تتخلل الجلسات، وكانت تعليقاته تركز على الميول التكفيرية عند سلفية اليمن وأتباع مدرسة الحديث، راوياً قصصاً شخصية عن الأذى الذي يتعرض له.
في تعليقاته ومداخلاته بدا المحطوري غاضباً متضجراً شاكياً مما يواجهه ويواجهه أبناء المذهب الزيدي في صعدة من تضليل وتكفير، بدا عصبياً أحياناً للبعض، ومشوشاً، ولكنه كان أيضاً قريباً من النفس، بسيطاً يمكنك أن تعرف ما تكنه جوانحه، شأن أبناء اليمن دائماً. السنوات التالية -فيما يبدو لي- عاشها المحطوري متقلباً ضمن تطور الأحداث والتحولات التي عاشها الزيديون والحوثيون في اليمن. لقي المحطوري الجمعة الماضية حتفه في تفجير استهداف مصلين في العاصمة صنعاء.
إن ما هو أخطر مما ستسفر عنه حالة الاحتقان الطائفي الذي تعيشه منطقتنا اليوم، هو القضاء على التنوع والفسيفساء الدينية والمذهبية التي عرفتها هذه البقعة منذ آلاف السنين، حالة من الانحسار والتجريف للأقليات الدينية، بتعرضها للأعمال الإرهابية، واستهداف أماكن العبادة، واختطاف أبنائها، وأخيراً استعباد إناثها وبيعهن في سوق النخاسة. واليوم يشهد أبناء السنة أنفسهم شيئاً من هذا التجريف والتقتيل على أيدي الميليشيات الإيرانية والعراقية الشيعية في أكثر من بلد.
كان اليهود هم أول من عانى التهجير ومصادرة الأملاك منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى ما بعد احتلال فلسطين، حتى عشرات الأفراد من اليهود الذين ضمهم اليمن، وفضلوا العيش فيه والبقاء في أرضهم التي احتضنتهم منذ ألفي عام أو أكثر، واختاروا أن يكونوا جزءاً من اليمنيين يشاركونهم لقمة العيش والأفراح والأحزان، أصبحوا أيضاً عرضة للتضييق والتهجير واستهداف أبنائهم وبناتهم. في نهاية عام 2006، كنت أتجول في ريدة، التي تضم بضع عوائل يهودية شمال العاصمة صنعاء، ومع أنني حاولت الحديث جاهداً مع اثنين منهم على قارعة الطريق إلا أن ضجيج الصبية وشتائمهم لـ«أبو زنار»، كانت لا تتوقف.
كان «ألبرت كان» الثري الفرنسي قد دشن مشروعاً عالمياً في عام 1912، لرصد وتصوير كل الأزياء والألبسة والعادات الاجتماعية، التي كانت تمثل التنوع المبهر في الأديان والأعراق، التي كانت على وشك الزوال إلى الأبد، سبعون ألف صورة ومئات الساعات من الأفلام، التقطت في منطقة البلقان والشرق الأوسط وفي وسط آسيا، واستمر هذا المشروع حتى 1929. واليوم يبدو أننا في منطقتنا بأمسّ الحاجة إلى مثل هذا المشروع، لأن ثمة أشياء جميلة وأخاذة ستزول إلى الأبد.