منصور النقيدان
قبل أسبوعين تابع كثيرون مناظرة نادرة حول حقوق المواطنة والشيعة في السعودية، وكان أحد أطرافها توفيق السيف وهو باحث ومؤلف من نخبة المثقفين السعوديين، ومع أن المناظرة كشفت أن كل واحد من المتحاورين كان يسبح في فضاء مغاير عن صاحبه، إلا أنها عمقت القناعة أكثر حول خطورة الفكر المتطرف الغالي الذي كان يمثله الطرف الآخر، الذي كان يؤمن أن الشيعة السعوديين لا حق لهم في المواطنة لأنهم ليسوا سُنة، ولأنهم لا يدينون بمذهبه ولا يتبعون لتفكيره.
إن تدريب الذات والأنا الفردية والاجتماعية والطائفية على الاعتراف بالاختلاف والتنوع هو أساس السلام في كل مجتمع، الإيمان بأننا ومن يختلف عن إيماننا من شركائنا في الوطن هم متساوون معنا، علينا جميعاً الواجبات نفسها ولنا الحقوق عينها، إن هذا التحول في القناعات والنفوس هو نقطة التحول الحقيقية في المجتمعات التي تصبو إلى السلام، إلى حماية لحمتها الوطنية، وهو الأساس الذي بنَتْ عليه المجتمعات الحديثة المتحضرة وجودها، وإذا نظرنا إلى التاريخ البعيد، فإن حركة البشرية الموّارة منذ فجر التاريخ، كانت تستبطن هذا الدافع منذ تحول الدين والإيمان إلى عامل مؤثر وأساسي في حياة البشر.
كما أنه كان هو الدافع نفسه الذي قاد المهاجرين إلى الحبشة مرتين لكي يكونوا في رعاية وأمان ملكها العادل الذي عرف بالعدل بين رعيته، وبين أبناء الديانات الذين كانوا يعيشون فوق أرضه. كانت تلك هي الفكرة البسيطة قبل 1400 سنة التي دفعت أولئك المؤمنين الأوائل في العهد المكي إلى الهجرة، ولأن الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة، كانوا خلال الثلاثة عشر عاماً الأولى من عصر الرسالة يشبهون إلى حد كبير المؤمنين الأوائل من حواريي المسيح، فإنهم وجدوا في أرض مسيحية يحكمها رجل قادر على التسامح معهم والتغاضي عن الاختلاف الكبير الذي سيكتشفه عند التفاصيل، موئلاً وملاذاً.
تتصل بهذه المسألة فكرة الإيمان الخاص، التي يمكنها أن تساعد المؤمن الصادق على أن يتقبل الآخرين وألا يقلق من اختلافهم، أي كيف يمكن للإيمان أن يكون مؤثراً في ترسيخ مفهوم مدني حول المواطنة، وهي إحياء فكرة التدين الفردي بين المسلمين، هي إحدى الرؤى الدينية التي يمكنها أن تساعد المجتمعات الإسلامية على الوقاية من كوارث التعصب الديني الذي يجعل من لوازم اكتمال إيمان الفرد تغيير واقعه الذي يعيش فيه بالقوة لتحقيق تصوره وقناعته عن المدينة الفاضلة أو ما يراه تطبيقاً للشريعة. الإيمان القلبي والقولي هو إحدى الطرق العتيقة إلى الله التي لها جذور عميقة في التراث الإسلامي، وأزهرت بعد ذلك في رؤى صوفية موزعة تناثرت الإشارات إليها في أقوال أعلامهم الكبار. ولكنه مفهوم إيماني يحتاج إلى تشجيع معتنقيه والمبشرين به وإبرازه لكي يساعد أيضاً الأقليات المسلمة التي تعيش في فضاء حضاري مغاير على تقبل واقعها والانسجام معه.
ويعني التدين الفردي أو الروحاني، أرقى ما وصل إليه مفكرو الإسلام الأوائل الذين عانوا الأمرّين وشهدوا المآسي التي أورثتها الحروب التي جرت بين المسلمين أنفسهم في العصر الأول، بدعاوى تحكيم القرآن. ووجد بعد ذلك الجيل اللاحق لهم في رحابة الموروث الديني في القرآن وأحاديث الوعد والبشارة ما يؤكد أن رحمة الله وحنانه ورضاه هي نصيب أولئك الذين آمنوا بالله وصدقوا به، ووقر في قلوبهم، وازهرت جوانحهم وأفئدتهم بذلك اليقين والنور، مستأنسين بمؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، وبالنجاشي الذي أكدت الأخبار الصحيحة أنه مات مؤمناً وصلى عليه المسلمون في المدينة رغم أنه لم يعلن تحوله عن دينه، ولا اعتناقه للإسلام، وجعلوا من سيرة النبي يوسف في مصر إحدى منارات هذا الإيمان الذي يكاد اليوم يكون هو الملاذ لكثير من شباب المسلمين الذين أتعبهم التمزق والتناحر.