منصور النقيدان
إن قدرتنا على تحدي الواقع المحزن الذي تعيشه مجتمعاتنا التي ضربها الإرهاب يتمثل عبر التفوق على أنفسنا وامتلاك الشجاعة لمناقشة الأفكار والأيديولوجية التي تستند عليها المنظمات الإرهابية، وتشجيع ثقافة التسامح، وعبر دعم البرامج والمشاريع التي تحيي الأمل لدى الشباب وتشجعهم على الحوار، وتغرس فيهم ثقافة السلام.
ناقشت معظم الدراسات التي صدرت منذ الحادي عشر من سبتمبر الأفكار والأسس الدينية التي استقت الجماعات المتطرفة والإرهابية من ينابيعها، والظروف السياسية التي أسهمت في ولادتها، والبيئة الاجتماعية التي وجدت فيها عمقها، ولكن غاب عن معظم هذه البحوث محاولة إدراك الخيط الرفيع بين التشدد الديني، وكونه عاملاً في التطرف، والكراهية وغياب التسامح، ودور هذا التطرف في العنف الذي يمكن أن يجد مستنداً له في التفسير الديني الذي يستدل بالقرآن أو الشريعة الإسلامية.
ومع وقوع الحدث الإرهابي المفزع الذي ضرب فرنسا في السابع من يناير الذي ذهب ضحيته الأبرياء، في غمار الصدمة التي عاشها العالم، والأحداث اللاحقة في الدانمارك وفي بلجيكا، كان ناشطون إسلاميون يبثون عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعاطفهم مع المجرمين عبر مسوغات دينية تنبش من تراث المسلمين أبشع الآراء الدينية لدعم هذا الإرهاب. كانت تلك تعبر عن حقيقة أن بشاعة الإرهاب والقتل يجب ألا تجعلنا نتجاهل ذلك التطرف الكامن في الأفكار وأنماط التدين وفي المنظمات السياسية التي جعلت من الدين غطاء لأهدافها.
يعيش في فرنسا ملايين من المسلمين، ويتوزع ملايين آخرون في القارة الأوروبية، غالبيتهم الساحقة تدين الإرهاب وترفض العنف، وتنفر من الفكر المتطرف، وبعض منهم أعلنوا رفضهم وتعاطفهم مع الضحايا، ونخبة من مثقفيهم ومفكريهم وفقهائهم، كتبوا وأوضحوا مواقفهم، وعلينا أن نشجع هذه النخبة وندعمها لكي تمضي أكثر في حركة إصلاحية شجاعة، وأن تقوم بمهمتها في توضيح النصوص والاجتهادات الدينية والتفاسير التي سممت أفكار الشباب وجعلت منهم وحوشاً، يشكلون خطراً على مجتمعاتهم، ومساعدتهم في ترسيخ المواطنة. إنه رغم أن هذه الجماعات موزعة على عدة قارات، إلا أنها تكاد تتقاسم فكراً واحداً، وتفسيراً دينياً شبه متطابق، ويكاد يكون المنظرون لهذا الفكر هم القاسم المشترك بين هذه الجماعات.
لقد كتب كثير من المفكرين المسلمين حول فقه الأقليات المسلمة التي تعيش في الغرب، ودار نقاش أكثر حول إسلام أوروبي يساعد شباب المسلمين على أن يكونوا مواطنين صالحين في بلدانهم التي ولدوا على أراضيها ويحملون جنسياتها، ولكنها مع الأسف لم تقدم ما يمكن اعتباره رؤية وتجربة مختلفة يمكنها أن تكون مبعث إلهام لنا في منطقتنا العربية، وتقدم لنا نموذجاً يساعدنا لاجتياز أزمتنا الحضارية.
واجب زعماء المنظمات الإسلامية الأوروبية ومجالس الإفتاء يكمن في تجاوز الانتماءات التنظيمية والحزبية، لكي يكونوا مؤهلين لمساعدة إخوتهم، وإلا فإن علينا أن نتوقع أن الكارثة ستتعاظم، لأن ثمة خطاباً منافقاً مزدوجاً، يظهر الوجه الناعم للمجتمعات والحكومات الأوروبية، وفي الوقت نفسه يربي جيلاً من الشباب المنظمين الذين يخدمون أجندة المنظمات السرية ويتربصون بمجتمعهم الدوائر، والأخطر أن كل ذلك الخداع يقدم على أنه الإسلام.
إن تفوقنا على أنفسنا سينبع من اعترافنا بالمساواة مع غيرنا، من أبناء الديانات والطوائف والمجتمعات والثقافات الأخرى والمختلفة، بتجاوز الأفكار العرقية والثقافية والدينية الصلبة التي تشوه علاقتنا بالآخرين، أن نمتلك الثقة لكي نعيد النظر في المسائل الحساسة التي تتطلب شجاعة لمناقشتها وإعادة النظر فيها.