منصور النقيدان
ما الذي يجعل من الأفكار خالدة عصية على الاندثار؟ ما الذي يجعل من دعوة دينية نزوة عابرة، ومن أخرى موضة مبهرة، لا تعدو أن تنحسر وتتلاشى في أعماق التاريخ؟ هل من قانون يمكن اكتشافه؟ هل من سر يمكن استكناهه؟
في عام 1902، ألقى مستشرق بريطاني محاضرة حول حاضر ومستقبل الحركات الإسلامية في العالم، وقد أكد في استعراضه، أن الوهابية في طور الاختفاء، وأنها كانت حركة تأسست ثم انتشرت وتمددت وبعدها اندحرت. كانت الدولة السعودية الثانية يومها قد لفظت أنفاسها الأخيرة، ووسط الجزيرة العربية أصبح مقسماً بين إمارة الرشيد، وإمارة القصيم، والنزاعات بدأت تدب بين الأمراء الذين كانوا في الوقت نفسه يعقدون التحالفات ليضمن كل طرف تفوقه على خصمه، وكانت الحجاز بيد الشريف الذي كان يهيئ نفسه هو الآخر ليكون خليفة للعرب، والقوى العظمى تعمل لتقليص ودحر العثمانيين واقتسام تركة «الرجل المريض».
غير أن ما لم يكن في الحسبان أن الوهابيين كانوا في طور انبعاثة ثالثة ستمنحهم هذه المرة دولة جاوزت اليوم قرناً من الزمان، وأصبح تأثيرها ونفوذها الإقليمي والدولي فوق ما كانت تتخيله أعظم العقول التي استشرفت مستقبل الجزيرة العربية.
في السنوات الفاصلة بين انهيار الدولة الثانية وقيام الثالثة، كانت نجد تشهد قصصاً ووقائع تجسد المخاوف والآمال، الانكسار والتعثر، الدعوة السرية والحشد، وكسب الأنصار الذي كان يجري بعيداً عن الرقباء. كان تجار العقيلات هم من كان يتولى شؤون السفارة، ويقومون بالدعم، ويعدون العدة، ويتولون تنظيم الأتباع، وساعدتهم حركة القوافل على التنقل بحرية أكثر.
وبما أن الحكم السعودي في الأساس قام على دعوة دينية، فإن عبدالعزيز بن عبدالرحمن، ومن معه من التجار والوجهاء الذين تواصلوا معه سراً، عرفوا جيداً أن دعمهم لمشروع عبدالعزيز السياسي يشكل الركن الأول لعوامل النهوض والبعث من جديد، مدركين جيداً أن استتباب الأمن في ربوع الجزيرة سيعود عليهم وعلى مجتمعاتهم وتجارتهم بالخير الوفير. والركن الثاني لنجاح المشروع هو الدعوة الدينية عبر بعثها كرة أخرى بنفس الوهج والجاذبية التي عرفتها الدولة الأولى مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب. وكان آل الشيخ الذين ضعفوا إلى حد كبير في فترة حكم آل رشيد يتعرضون بين الفينة والأخرى لضغوط، وشكوك وإقامة جبرية، وعين رقيب على مدار الساعة. وكان غالبية التجار من العقيلات يمثلون التيار الأكثر اعتدالاً بين الوهابيين، بحكم انفتاحهم واختلاطهم بالشعوب والمجتمعات الأخرى.
وما بين سقوط الثانية وقيام الثالثة شهدت نجد حراكاً فقهياً سمح بتوجيه النقد للأفكار الجوهرية، التي قامت عليها دعوة آل الشيخ، وكانت عرضة للمراجعة بين الفقهاء والعلماء النجديين أنفسهم. الملفت أن معظم الخلاف بين المتخاصمين كان يجعل من رسائل ومؤلفات الإمام ابن عبدالوهاب مرجعاً، والخلاف في أغلبه يدور حول تفسير نصوصه، والجمع بين تناقضات أفكاره في أكثر من واقعة حول قضية بعينها. وكانت الدعوة الوهابية من القوة والنفوذ الاجتماعي حداً جعل معظم الاجتهادات التي ضخت في تلك الفترة داخل إطار أفكار الإمام ابن عبدالوهاب، وليست خارجها في الأغلب.
والأمر المحزن أن تطورات الأحداث اللاحقة والنزاعات السياسية، والصراع على النفوذ بين القوى في الجزيرة العربية، تسببت بانحسار هذا التنوع إلى حد كبير مع نهاية الحرب العالمية الأولى. فقد كانت الجزيرة في طور ولادة أمة جديدة.
العبرة من كل هذه الجولة التاريخية هي أن ندرك جيداً أن الأفكار الكبرى إذا غرست بذورها في تربة اجتماعية مناسبة وغذيت جيداً، وتعوهدت بحب وبإخلاص، فإنها مهما تعرضت للقلاقل، والضعف، ومهما تغيرت عليها المواسم، فستبقى دائماً متوهجة، ومتهيئة لمن يحتضنها لتقوم بدورها التاريخي قدر ما تمنحها الظروف واللحظة التاريخية المواتية.