منصور النقيدان
لا ينفك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطبه وكلماته التي يلقيها بين أنصاره، وفي المناسبات الوطنية عن الإشارة إلى الكيان الموازي، أو الدولة العميقة، التي يرى أنه إلى حد كبير أفلح في خنق وتقليص نفوذها، وقطع أذرعها، وتجفيف منابعها، معلناً أن كل ذلك تعبير عن رغبته الصادقة في حماية تركيا من أعدائها، الذين أحاطوا بها كالضواري.
منذ اندلاع الخلاف بينه وبين فتح الله جولن مؤسس جماعة «خدمت»، وأردوغان يصف خصمه بـ«القابع في بنسلفانيا»، في إشارة إلى أن فتح الله جولن وبأنه متورط في حلف شيطاني ضد تركيا ينطلق من الأراضي الأميركية. ويكاد أي متابع لخطب أردوغان يلمس من عباراته هوساً بعدو لا يكل من عقد المؤامرات على تركيا وشعبها ومصالحها وعليه هو شخصياً، ولكن هذه الخطابات المتكررة في كل مناسبة تعني أن الرئيس التركي قد خبر بشكل جيد كيف تخلق هذه الكيانات، وكيف تعمل، وكيف تستمد بقاءها، فالرئيس التركي تربى في محاضن الحركة الإسلاموية، وكان جزءاً منها، وفاعلاً فيها، لهذا هو معني اليوم بخلق كيان موازٍ آخر، خلق دولة عميقة بديلة، مظفورة بخبرة تنظيمية تمرس فيها منذ عقود، لكي يحمي مشروعه وأحلامه عن تركيا العثمانية.
وهنا يمكننا أن ندرك جيداً أن تركيا الجديدة في طور التحول إلى أمة أخرى غير ماعرفناه في السنوات الماضية من حين وصل أردوغان إلى رئاسة الحكومة. أمة متنكرة لإرث أتاتورك الذي بنى تركيا الحديثة، وهذه الأمة الجديدة الحلم ستكون محمية بطبقات من الممسكين بمقاليد الحكم، مشكلين كتلة صلبة يمكنها أن تزيح من السطح أي غريب يطمح إلى إحداث اختراق في نظامها. هنا نحن أمام تجربة جديدة تتخلّق. الفارق بين أن تكون عُصْبة تحرس المشروع، وبين أن تكون عِصابة فاسدة تتقاسم المغانم، هو أن يجمعها عقيدة متعصبة، قادرة على خلق الأحلام ومشبِعة ٌروحياً لمن يكابدون ويتفانون في هذا المشروع.
تكاد تكون الدولة العميقة تعبيراً ملطفاً وناعماً عن تنظيم غير مرئي يتوارى خلف الرتب السياسية والمناصب الموزعة والإدارات التي تدير شؤون الدول. إنها تلك الفئة النافذة من سياسيين وعسكريين ورجال أعمال وفقهاء ورموز روحية واجتماعية تربطها علاقات معقدة ومصالح مشتركة، وإذا انضاف إلى هذه العوامل اعتناقها العقيدة والفكر نفسه، فهنا نكون أمام نخبة مهيمنة قد يستمر تأثيرها لعشرات السنين.
في فترات الأزمات الكبرى تكون عرضة للامتحان والتحدي، لأنها ستكون أمام مفاجآت غير خاضغة للتوقع. لقد احتاج «الشوجون» أو قادة «الساموراي» في اليابان إلى قرابة مائتي سنة لكي يتهاوى نظامهم الذي بسط نفوذه على اليابان لقرون، ولكنهم لم يكونوا قادرين على ذلك لولا أنهم عزلوا اليابان عن العالم، ولكنهم بعد الانفتاح، الذي قرره الإمبراطور، كانوا في ذمة التاريخ خلال عقود، ولكن وكما يعبر «أندرو مار» في سلسلته الوثائقية عن تاريخ العالم، فإن الساموراي الذين غابوا بنظامهم وأزيائهم وسيوفهم، كانوا لا يزالون قابعين في الروح والشخصية اليابانية لعقود لاحقة أقحمت الأمة اليابانية في الحروب التوسعية حتى الحرب العالمية الثانية.
تكون بعض المجتمعات الهشة محظوظة بوجود دولة عميقة تحميها من انقلاب الولاءات، وهشاشة الدولة، وانفلات كل شيء وسيلانه. ويبدو أن العمر الافتراضي لهذه القوى هو جيل واحد، تكون في ذروتها وفي عنفوانها. ولكن التنظيمات والأخويات التي تستبطن الكيانات السياسية تكون أطول عمراً وتعمّر أكثر، لأن ثمة عقيدة جامعة تجمع شملهم، والعقيدة المقصودة هنا هي أوسع من التعريف الديني الضيق الحرفي، فهي تتجاوز التفاصيل، محافظة على الروح، على الإرث، على التقاليد، التي يغذيها التاريخ، والحضارة والإنجاز والبطولات، ومن دون هذه العوامل فإنه يستحيل استمرارها. ويبقى أن هذه النماذج لا يمكنها أن تترعرع إلا في المجتمعات المتحضرة ذات الإرث التاريخي الذي يشكل الذاكرة ويخلق الأمة، هنا يكون ما لدينا أبعد من تنظيم وأكبر من عصابة.