منصور النقيدان
لعبت الأخويات السرية عبر التاريخ أدواراً كان بعض منها ذا تأثير عميق، في مجتمعاتها التي ولدت في أحضانها وفي دهاليزها الخلفية، وأسهمت في تشكيل ثقافتها، وتوفير قيادات سياسية مؤتمنة، وزعامات روحية رديفة. ومنها أخويات كانت نتائج نشاطها السري وبالاً، ومدمراً ومشوهاً لشخصية أتباعها التي هيمنت فيها، وسيطرت وتجذرت لعشرات السنين وربما لقرون.
أفترضُ أن الهلال الخصيب، وبلاد فارس، والهند، وفلسطين، والإسكندرية، شهدت ميلاد أعظم هذه التنظيمات قبل الإسلام، ثم هاجر بعض منها في فترات الاضطراب، والتضييق والقمع، ليكون مصيرها الذبول. بعض منها يكون عرضة للترهل والشيخوخة والانشقاقات، وبعض منها يعيد تشكيل ذاته مع كل تحول عميق تعيشه المجتمعات التي تنشط فيها. ولكن يبدو أن أعظم التهديدات تتمثل في التحولات الحضارية الكبرى التي تخلقها الحروب الكبرى التي تجرف في طميها هذه التنظيمات واحداً تلو الآخر، كما حصل مع الحشاشين إبان حروب التتار.
ويبدو لي أن الإرث الموغل في التاريخ للتنظيمات السرية والأخويات يعود بجذوره إلى الشرق، إلى الإرث الذي خلفته الحركات الدينية والاجتماعية المنبوذة، التي نشأت في مناخ من الخوف، وإحصاء الأنفاس وفي حالات إعادة تشكيل المجتمعات التي يقودها زعماء يمتلكون رؤية دينية أو فلسفية تعي جيداً أن إعادة تشكيل وعي رعاياها، لن ينجح إلا عبر تنظيف جذري، وكتم لكل الأصوات التي يمكنها أن تقود معارضة مغلفة بمطالب اجتماعية أو دينية.
شهد الإسلام في القرون الثلاثة الأولى انتعاش بعضها، وكانت في أغلبها حركات احتجاجية قادها الإيرانيون رداً على اكتساح الإسلام بلغته العربية وتقاليد أهلها الفاتحين للشرق الذي هيمنت عليه فارس لقرون طويلة. ويبدو أن كلاً من الهند والصين قد عرفا هذا النوع من الأخويات في فترات بعضها رافق ظهور المسيحية وبعضها كان أيضاً في العصر الإسلامي.
لنتذكر أن نجاح العباسيين كان يدين لهذا الإرث، ووجود الفرس ضمن القيادات المخلصة التي تولت نشر دعوة العباسيين، كان عامل النجاح الأكبر. لم يكن عرب الجزيرة قادرين على خلق هذا البناء المحكم من الموالين، بل كانوا بحاجة إلى من يمتلكون هذه الثقافة والإرث.
يمكننا التنبه إلى أن الحركات الاحتجاجية التي تلت هذه الحقبة مثل الفاطميين في فترة كمونهم، وقبل الكشف عن برنامجهم السياسي وإعلان دعوتهم، والقرامطة الذين كانوا في علاقة متوترة مع الفاطميين، وكذلك الحشاشون لاحقاً، وحركة الزنج قبل ذلك، كلها تجليات معلنة لتنظيمات كانت قد ترعرعت واشتدت وكسبت أتباعها المخلصين في الظلام، بعيداً عن عين الراصد. حركة الزنج كانت أضعفها تنظيمياً لأنها جمعت أخلاطاً يصعب إحكام ضبطهم، فقد كانت حركة رعاع امتطاها أفاق.
فشلُ محمدِ بن عبدالله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية وأخوه إبراهيم في ثورتهما ضد العباسيين في ذروة انتصارهم وانقلابهم على العلويين الذين كانوا شركاءهم، هو أنموذج للثورات المنشقة التي تقوم في أوج عنفوان ثورة كبرى ترعرعت على ضفافها. والشيء اللافت أن التنظيمات السرية كانت تنشط بعيداً عن مركز القوة السياسية المسيطرة، حيث العصبة والسيطرة والنفوذ والاستقرار، وأحياناً الفئات المهمشة.
بعض أهل الحديث من السلف الذين طمحوا إلى تأسيس تنظيمات سرية مُنوا بإخفاقات كبيرة، فالتنظيمات والأخويات تحتاج إلى ذكاء مركب ومعقد وأناة، وبنفعية، قادرة على هضم تقاليد لا تتوافق مع نمط من التدين اليابس، الذي بطبيعته ينفر من السرية والغموض، وهذا ما تؤكده قصة أحمد بن حنبل مع الحارث المحاسبي. ولهذا كانت ثورة أحمد بن نصر الخزاعي ضد الواثق فشلاً منذ البداية انتهت به إلى تعليق رأسه وضرب ثورته في مهدها لأنه حشد أمشاجاً من المطوعة والسذج. وللحديث بقية.