منصور النقيدان
يكاد يكون خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أكثر أبناء الملك عبدالعزيز معرفة بتاريخ دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب، وأعمقهم اطلاعاً وتتبعاً لتفاصيلها، وسدنتها، ومواسم صعودها، وهبوطها، وعوامل تقهقرها، وأسباب انتعاشها، وحدود احتمالها، وخطوط تماسها مع المحظور.
من جهة أخرى كان الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، والملك فيصل بن عبدالعزيز أكثر ملوك السعودية تأثيراً على البعد العقدي للوهابية، والسلفية عموماً، ومحاولة إحداث اختراق داخلها وإعادة تشكيلها. يمكننا القول إنه منذ 1962 تقريباً حتى وفاته 1975، كان الملك فيصل راعياً لمشروع تطعيم المؤسسة الدينية بجيل جديد من العلماء، كان فيهم مجموعة من المهاجرين العرب، وقلة من الجيل الجديد من السعوديين الذين تلقوا تعليماً نظامياً.
وللظروف التي عاشتها المنطقة في نهاية الخمسينيات والستينيات، ولتخشب الفقهاء الذين تعلموا في الكتاتيب ومانعوا أي تحديث للمملكة الناشئة، فقد كان نصيب السعودية ودول الخليج الحديثة النشأة، حشوداً من الإسلاميين المهاجرين الذين كانوا لوناً جديداً، أكثر نعومة وانسجاماً مع رؤية القيادة السياسية، وأطوع لقراراتها، ونتج عن ذلك أنهم كانوا هم الأسبق لتولي الإدارة والقيادة في المؤسسات التعليمية والتربوية التي كانت في بداياتها. ولكن حصاد ما زرعته هذه الدماء الجديدة كان -على السعوديين-أكثر خطورة وفتكاً وأعمق تدميراً، وأسوأ مآلاً.
بينما سعى الملك عبدالله بن عبدالعزيز لما يشبه تصحيح أخطاء أربعة عقود من التمكين لتيار ديني اكتسح الأخضر واليابس، وشوه حياة السعوديين وبهجتهم، وتجلى ذلك عبر محاولاته إدخال علماء شباب في هيئة كبار العلماء ودعم آخرين للظهور على شاشات التلفزيون، ومع أن بعضاً منهم كانوا مخيبين للآمال، إلا أن هذا المشروع لم يتعثر، حيث تبعته خطوات أخرى في التسريع لإحلال قيادات منفتحة على رأس المؤسسات الدينية والجامعات، غايته أدواراً أكثر تقليدية وأقل تسييساً، وأكثر شجاعة في مواجهة التطرف والإرهاب، وشهد العام 2014 نشاطاً ملفتاً في هذا التوجه.
كان الملك الموحد عبدالعزيز بن عبدالرحمن، يعي تماماً ما هي حدود الاحتمال، والمساحة التي ينبغي أن يؤطر خلالها نشاط المطاوعة، والعلماء، لأنه كان عليماً بأي كارثة يمكنها أن تقع إذا أطلق العنان لمجموعات من العقائديين المتخمين بالكراهية لمن لا يدين بمذهبهم، وحاول الملك المؤسس طوال خمسين عاماً، وعلى الخصوص بعد مقتل الشيخ عبدالله بن عمرو، والنفي الاختياري للشيخ إبراهيم الجاسر تقريباً عام 1917، والتضييق على علماء المذاهب الفقهية وخصوصاً في الحجاز، أن يدفع نحو تخفيف حدة الفقهاء والعلماء، فكانت الحركة الأولى من استقبال المهاجرين العلماء من خارج الجزيرة.
لقد باح الملك عبدالعزيز في أربعينيات القرن الماضي في لقاء عارض جمعه بالشيخ حمد الجاسر، بمشاعره الصادقة تجاه الشيخ إبراهيم الجاسر، الذي كان الأب الروحي للنهضويين النجديين في الثلث الأول من القرن العشرين، وحين استرسل الملك في شرح موقفه من تضييق العلماء على هذا التيار، قطع الشيخ حمد حديث الملك، موضحاً أنه لا ينتسب إلى العائلة نفسها، ولا قرابة تجمعه بالشيخ الجاسر، وقتها أحجم الملك وقطع حديثه، وهو الأمر الذي أغضب الطبيشي رئيس المراسم بعد انتهاء اللقاء، وقال للشيخ حمد «كان عليك أن تصغي وتلزم الصمت حتى ينتهي جلالته».
اليوم تعيش المملكة تحدياً حقيقياً على صعد شتى، ويأتي في المقام الأول، تهديدات المطاوعة وسعيهم لإفشال أي مشاريع إصلاحية لصالح المرأة وحريات اجتماعية أعلى، وتسامح أكثر، وغرس ولاء أعمق للقيادة في مرحلة صعبة، ويبدو أن من أكبر الملفات داخلياً كبح جماح التيار الصحوي، الذي استشرى بين الشباب وتحول إلى مزيج من «الداعشية» و«القاعدة» و«الإخوانية» بصورها المتعددة، ويبدو الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي يمتلك رؤية عميقة وخبرة لا تضاهى بعقلية وطريقة تفكير المشايخ، هو الأقدر -إذا شاء – على إكمال مسيرة سلفه الراحل الكبير.