منصور النقيدان
ثلاثة وأربعون عاماً من الألفة والنجاح والإخاء والإيثار والمصابرة، ثلاثة وأربعون ربيعاً من الرفق والحلم والتعاون بين حكامها، والتواضع والتقدير بين شيوخها، والتغافل من لدن حكمائها تجاه الأذى والتهويش والتحريش، عشرات السنين من الحب والعطف والأبوة والتسامح والشفقة التي أغدقها حكامها على رعيتهم، أربعة عقود وثلاثة أعوام من الحدب والحيطة والحذر والصيانة لهذا الاتحاد الذي كان كل عام يؤكد للعالم متانته وصلابته، حتى غدا مثالاً لا نظير له ولا مسامي يوازيه.
قصة الإنسانية هي قصة الهجرة والترحال، التنقل والسفر، الضرب في الأرض، وغصص الفراق، ولوعة البعاد، وأشعار القلوب المدنفة، والمهج الكلمى، والنفوس المعذبة. كتب الغرباء المرتحلون أشعارهم وحفروا ذكرياتهم على الصخور، ونفحوا كل بقعة مروا بها بعضاً من أرواحهم، ومزقاً من غصصهم.
فهل غدت الإمارات بلسماً عن برح البعاد عن الأحبة؟ هل أمست دار زايد ترياقاً عن عذاب الليالي وقلق الساعات، وتباريح الشوق التي تكسر الرجال الأقوياء وهم يذكرون صباح مساء صغارهم الذين خلفوهم في أوطانهم كزغب القطا، وتتخايلهم أشباح صويحباتهم اللواتي كتمن أنفاسهن الحرى خشية من الهوان من بعد المعيل، ووجلاً من الضعة بعد القوة؟
هنا في أرض الخير وفدت الملايين من كل أرض، ومن كل لسان، ومن كل دين وثقافة، بحثاً عن فسحة من العيش، وبسطة في الرزق، أو كفاف من الدنيا، هنا في أرض زايد يجد المضطهدون حريتهم، والمهمشون فرصتهم.
في الإمارات أناخت ركاب الغرباء فكراً وديناً وفلسفة وأدباً، فنعموا بالأمان والهدوء والطمأنينة ودفء المكان، وبشاشة كل مايحيط بهم، فحيثما شخصت أبصارهم ألفوا مايشرح الصدر ويبهج النظر. هنا في أرض زايد وجد العشاق مايلملم أحزانهم، وتحت جناحها أغمضوا أعينهم وهم في أمان الله، أرض لايضام فيها ساكنها، ولا يبتئس قاصدها، ولا يشقى من ارتحل إليها، فكل مكان ينبت العز طيب، وقد طابت لنا الأرض، ورحبت بنا الآفاق، وسلبت قلوبنا تهاويل جمالها. كنا نقرأ صغاراً ويافعين وشبابا ورجالاً عن الأندلس، عن حلم ضاع، عن أرض لبن وعسل، وعن جنان لم تر مثلها عين ولم تسمع بها أذن. كنا نقرأ عن قرطبة وغرناطة وإشبيلية، فإذا بأرض زايد فوق كل ماوصف. لم تكن حلماً أو وعداً، بل كانت ومازالت وستبقى شيئاً نتلمسه بأناملنا، ونشمه ونستطعم مذاقه، وحقيقة نراها عين اليقين، ونعيش كل نفس فيها، وكل خفقة في رحابها.
كم من أديب، وكاتب، ومفكر، وفنان، لم تكن لأفكارهم، ولا لشطحاتهم، ولا لرغابتهم، ولا لفلسفاتهم الخاصة في الحياة أرض في ديار العرب تحتملها، ولاسقف في محاضن الكراهية والعنف تظللها، حتى أناخوا ركابهم هنا بين أبوظبي ودبي، فاندسوا بسلام، ووجدوا السلوى بعد الفقد، والحب بعد البغض، والدفء بعد الصقيع، فطاب لهم المقام، وبلغوا غاية المرام، بل كانت هداياها لاتبخل عليهم فلمعت نجومهم، وتوافرت فرصهم، ووجدوا التكريم بعد تقريع وجحود اللئيم، والتقدير بعد تهميش وتحطيم.
الإناث الكسيرات، والمكسورات والمعنّفات والمعذبات، أولئك اللواتي عشن عقوداً من التدمير والقهر والإذلال والسطو على حقوقهن وجدن في بلاد زايد أهلا وأحباباً وعدلاً، ففتحت لهن الأبواب مساواة وتشجيعاً وحياة كريمة لم يحلمن بها. آه..فلطالما كنا نحن العرب محط سخريات الأمم، ومهبط شتائمهم، فلا أمل كان يلوح لنا، ولا حلم ننافس به الشعوب، ولا فخر ننافر به الثقافات، حتى انبلج الفجر، وأذن الله بعهد جديد، فلملمت جراحنا، وأحيت هذه الديار أرواحاً ميتة، وكفكفت مآقي تجرحت، ومهجاً تقرحت، وداوت نفوساً منهكة وأرواحاً مرهقة، فسلام على زايد، وديار زايد.