منصور النقدان
في أوائل يوليو 2006، سنحت لي الفرصة لزيارة المرجع اللبناني الشيعي السيد محمد حسين فضل الله، كنت مع ثلاثة سعوديين من أصدقائي من أهل القطيف، ولأن المرحوم كان يظنني من أبناء المنطقة ذاتها وجعفرياً شأن من كنت معهم، فقد وجه إليّ الحديث مباشرة على مسمع من رفاقي :«عليكم أن تركزوا على الجوانب التي تفجر طاقات الإبداع في الشباب، وتصرفهم عن الصدام مع السلطة، ركزوا على الفنون على الرياضة، على الآداب، وكل ما يمكن أن يعوضكم عن الإحباط، اجتهدوا في التعليم، تميزوا فيه، إن النجاح في هذه المجالات يحيي فيكم الأمل والفأل». لكن الشيخ «أبوكميل حبيب آل جميع» نبه السيد إلى أنني أخ لهم، ولكنني سُني المذهب، قلت له: إنني من نجد من القصيم، فابتسم وقال: سيان.
كانت تلك الأيام الأربعة التي قضيتها بين الضاحية وبين الحمراء، هي المرة الأولى التي أزور فيها أماكن في حارة حريك للمرة الأولى والأخيرة، لأنه بعد أيام قليلة أزيلت تلك المنطقة عن بكرة أبيها بعد تدمير الإسرائيليين لها، ولم يعد لها وجود مرة أخرى. وفي العام نفسه أو الذي تلاه، زرت القطيف وقابلت عشرات من الشباب الساخطين الذين انهال علي اثنان منهم بالهجوم والنقد القاسي، كان من بين الحضور اثنان من البحرين وآخر كان كويتياً، وكان ما سمعته سخطاً مزدوجاً، على الدولة من جهة، وعلى رموزهم الذين عادوا من المنفى، ولكنهم في نظرهم قد خانوا القضية، وتخلوا عن مبادئهم، وولوهم ظهورهم، كان فيهم من مضى عليه سنوات لا يملك جواز سفر، لاموا شيوخهم الذين احتكروا ما أسبغته الدولة عليهم من منافع ومنح على أتباعهم، ومريديهم الأقربين، أي قصروا كل الخير على الخط السياسي الذي ينتمون إليه.
غالب هؤلاء كانوا من كوادر «حزب الله» في الحجاز وغيره، وفي تلك الأيام كما هو الحال قبله بأربع سنوات في زيارتي للعوامية عام 2002 في محرم 1423هـ، كنت تجد صور حسن نصر الله أوشاماً على أجساد الشباب أو ملصقات على أعمدة الإنارة، وبالتأكيد كنت تجد صور الخميني أو خامنئي. لحسن حظ بعض من همشوا اجتماعياً وبقوا في الظل لأسباب غالبها شخصية، أنهم أصبحوا أكثر انفتاحاً على كل التيارات، لا حدود لصداقاتهم، وحين تتعاطى معهم فأنت أمام أشخاص يرون أنفسهم فوق الانتماءات الضيقة مذهبياً وسياسياً، كانوا ولا يزالون شيعة وسعوديين صالحين، فيهم الإصلاحي وفيهم المتدين وفيهم المحافظ، ولكنهم في الوقت نفسه، معنيون بتنمية المنطقة، يهمهم هدوؤها وتفريغها من الأجندة السياسية التي أظهرت السنوات اللاحقة، تأثيرها البالغ السوء في أرواح وعقول ونفوس شبابهم. في المقابل لا تزال مسألة النابهين الشباب من المنشقين ذوي الأفكار الإصلاحية تقابل بالتجاهل والتهميش، شأن كل أقلية دينية مغلقة.
بعد مشكلة مقابر البقيع في 2009 كان اثنان من أهالي القطيف وهما عصام، وشكري الشماسي كالمستشارين لأمير منطقة المدينة المنورة، وأسهمت جهودهما مع مجموعة أخرى في تخفيف التوتر، ويكفيكم أن ترجعوا عاماً واحداً من اليوم لتكتشفوا أن أصحاب الأسطوانة المشروخة بأنهم صمام الأمان، وأنه لولاهم لاضطربت الأحوال، كانوا أول المشككين في خطبهم برغبة القيادة السياسية في حماية الوطن والمجتمع من الاختراق وتلاعب أجهزة المخابرات ببعض ضعاف النفوس.
لقد أخطأت الصحافة والإعلام مرات في تسليط الأضواء على مجموعة صغيرة من السياسيين المعممين وغيرهم وتقديمهم على أنهم رموز الطائفة، بينما المجتمع الشيعي أغنى وأثرى. اكتشفوا غنى القطيف، تعرفوا على أبنائها الصادقين، تجاهلوا المهووسين بالصور والأضواء. اكتشفوا «أبناء الديوانية» تجدوا الشيعي في أبهى صوره وأكثرها وطنية وبساطة.