منصور النقيدان♦
في الـ16 من مارس الماضي، تناقلت وسائل الإعلام الإماراتية، وشبكاتُ التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو قصيراً لولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وهو يتحدث مع عددٍ من مسؤولي حكومته عن جائحة كورونا، والإجراءات التي اتخذتها الحكومةُ ومؤسساتها. تضمن الفيديو كلماتٍ قليلة أكد فيها أن مؤسساتِ الدولة ستضمن توفر الغذاء والدواء إلى ما لا نهاية.
وتضمنت كلمات ولي عهد أبوظبي نصائحَ حول العناية بكبار السن وحمايتهم من عدوى “كورونا”. وفي الأول من أبريل انتشر مقطعٌ آخر لولي العهد وهو في اجتماع عن بُعد مع عددٍ من المسؤولين، قال فيه إنه يشعر بالسعادة وتدمع عيناه وهو يستعرض مشاهد لمقيمين من غير الإماراتيين يرددون النشيد الوطني الإماراتي في الأوقات التي تشهد حظراً للتجوُّل؛ تحيةً وامتناناً للأرض الطيبة التي تحتضنهم. لا يزال فيديو منتصف مارس هو الأكثر تناقلاً والأوفر حظاً في الإمارات بين مختلف الجنسيات واللغات؛ وهو حتى الآن يحتل الصدارة ضمن ألوف من مقاطع الفيديو التي انشغل العالم العربي بها في الأسابيع الأخيرة.
نقطة القوة في هذا الخطاب، الذي يمكننا وصفه بـ”التاريخي”، أنه كان موجهاً إلى كل مَن يعيش على الأراضي الإماراتية، كان رسالةَ تطمين للمواطن، ولكل أولئك المقيمين الذين اختاروا “دار زايد” أرضاً لتحقيق أحلامهم. مثَّلتِ الكلمات رسالةً للإنسانية، في لحظةٍ عصيبة، في توقيتٍ مناسب، النفوسُ فيها مهيئة، وتحت وطأة القلق والخوف من المستقبل واللا يقين الذي يعصف بالبشرية في حادثة هي الأولى في التاريخ المعاصر. يمكننا اعتباره خطاباً لزعيم قوي وملهم، واثق ومؤمن بنفسه، وبفريق حكومته، وبثقة الأمة الإماراتية فيه قائداً. وكما هو معتاد، فإن المقارنات لم تتوقف بين خطاب القائد الإماراتي، وبين غيره من رؤساء، ومسؤولي الدول شرقاً وغرباً الذين اضطروا، تحت وطأة الجائحة، إلى مصارحة مجتمعاتهم والتحدث إليهم وشرح سياساتهم الحكومية لاحتواء الوباء ونتائجه الاقتصادية والاجتماعية والصحية.
في العصر الحديث -شأن كل لحظات التاريخ المفصلية- كانتِ الساعات العصيبة التي تمر بها المجتمعات فرصةً سانحة للقادة أن يضعوا بصماتهم، وأن يدشنوا معالم مرحلة قادمة، ويمدوا جسراً مع رعاياهم، ويجددوا الثقة؛ ولكن القلة هم الذين كانوا محظوظين بتوافر العوامل: الظرف، التوقيت، الكلمات المناسبة، والجمهور المتعطش الوجِل، والنجاح في اختيار الكلمات، وتحقق الأثر المرجو. نتذكر المهاتما غاندي عام 1922 في خطابه التاريخي حول اللا عنف، وفرانكلين د.روزفلت عن اعتداء بيرل هاربُر 1941، وخطاب تشرشل الشهير للأمة البريطانية عشية الحرب العالمية الثانية “دم وألم ودموع” 1940، وكلمته الأخرى أمام الرئيس الأمريكي ترومان، عن الستار الحديدي في جامعة ويستمنستر 1946، ومارتن لوثر كينغ “لديَّ حلم” 1963. وتأتي كلمة محمد بن زايد ضمن هذه الخطابات التاريخية؛ حيث توجَّه قائد عربي برسالته إلى أُمة يافعة ودولة حديثة ستحتفل هذا العام بعيد ميلادها الـ49.
في عام 2012 ذكر ولي عهد أبوظبي، في تعليقٍ على محاضرة أُلقيت في مجلسه، أن أكثر ما يشغل باله هو الأمن المائي لمنطقة سيكون عدد سكانها خلال سنواتٍ قليلة خمسين مليوناً؛ لأنها أرض تتصحَّر وتشهد نضوباً في الموارد المائية. الموارد المائية هي العنوان الأكبر لما يمكن أن يوصف بحروب المستقبل، وَفق خبراء ودراسات نثرتها مراكزُ الدراسات والاستشراف في العقدين الأخيرين. وفي أواخر عام 2010 في حديثٍ مع اثنين من الصحفيين، قال الشيخ محمد بن زايد إنه يسعى إلى تحقيق حلمه، في أن تكون أبوظبي واحدةً من أكثر عواصم العالم تقدماً، و”أن تحتل مكانها ضمن أفضل خمس حكومات في العالم.. إن طموحي أن تنافس أبوظبي سنغافورة في مخرجات التعليم”.
وكان متوقعاً أن تتولى أبوظبي منذ الأزمة المالية عام 2008 العبء الأكبر في المسؤولية تجاه الاتحاد الذي شهد على مدى خمسين عاماً تحديات هائلة. تضاعفت الحاجةُ إلى قيادة قوية بعد أحداث الربيع العربي التي تسببت في اضطرابات هائلة، وهشاشة في أنظمة الحكم التي نخرت فيها عوامل الاهتراء منذ عقود، واليوم يبدو أن اتحاد الإمارات السبع أكثرُ صلابةً وتماسكاً وانسجاماً في رؤية شيوخه أكثرَ من أي وقتٍ مضى.
ومع تحول الإمارات إلى واحدة من أكثر دول العالم جذباً وأمناً وبيئةً للأعمال وجودة الحياة، لم يكن وجود قرابة مئتي جنسية على الأراضي الإماراتية إلا عبئاً يستدعي من الساسة تذكير الجميع أنهم سواسية أمام القانون؛ فبالقانون يتحقق الأمن والعدل والتطور، لهذا احتل الحكمُ الرشيد وسيادةُ دولة القانون الأولويةَ عند ولي عهد أبوظبي. في نوفمبر 2016 انشغل الشيخ محمد ببعث طاقةٍ من القوة والثقة في قضاة المحاكم وتذكيرهم بأنهم مسؤولون أمام الله وأمام القيادة، مدفوعون بحكم الواجب بأن لا يجاملوا أحداً في الأحكام، ولا يراعوا فيها رغبةً أو رهبة. وبالتوازي مع ذلك، كانت له خطوة أخرى يذكِّر فيها وجهاً لوجه كبارَ النافذين والمسؤولين بأنه لا حصانة لأحد أمام القانون. الصبر والأناة كانت إحدى الصفات العظمى التي كان مؤسس البلاد الشيخ زايد آل نهيان، يتحلى بها؛ وهي سجية لطالما ذكَّر بها ولي العهد أقربَ مستشاريه وأصدقائه.
في السنوات الماضية، برز اسم الزعيم الإماراتي بشكل متصاعد على مسرح السياسة العالمي، وكان لهذه الريادة ثمنها؛ فكما لمحمد بن زايد محبون وموالون ومعجبون على امتداد البسيطة، هناك أيضاً أعداء كما هي الحال مع الزعماء الذين يأخذون زمام المبادرة، ولا يستسلمون للأقدار وينكفئون في كهوفهم، وكأن ما يجري من حولهم لا يعنيهم. حين تكون زعيماً فأنت مرغمٌ على أن تشطر الناس إزاءك فلقتَين، وتجعل منهم ضفتَين، فالتأثير والثقل اللذان تجاوزا حدود بلاده وجوارها، كان لهما ردود الفعل المتوقعة؛ دعم الشرعية في اليمن، والاستقرار في مصر، ودعم الجيش الوطني في ليبيا، والتنبُّه مبكراً بسنوات قبل الربيع العربي إلى ما يشكله الإسلام السياسي والميليشيات المسلحة من أخطار ماحقة بالمجتمعات والحكومات، والوقوف أمام الأطماع التركية في المنطقة العربية، وأخذ زمام المبادرة إقليمياً، وعقد التحالفات لتجنيب المنطقة الفراغَ الذي ستكون نتائجه وخيمةً للأمن الإقليمي. إنها كلها مسؤوليات ضخمة يختار كثيرٌ من رؤساء الدول تجنب صداعها وتكاليفها الهائلة سياسياً ومادياً وأمنياً. ونتيجة لهذا؛ فإنه لا يكاد يمر يوم إلا وتنشر صحف دولية ووسائل إعلام متعددة التوجهات تقارير ومقالات وبرامج يكون فيها ولي عهد أبوظبي محل النقاش ومثار الجدل.
يجلل اليأس والغموض وشبح الفقر والفوضى منطقة مترامية الأطراف، وتتمركز الإمارات في بؤرة هذه البقعة البائسة، والاستسلام ليس خياراً.
في تسعينيات القرن الماضي، كان ولي عهد أبوظبي من أوائل مَن تنبهوا إلى الخطر الكامن في تمدد الحركية الإسلامية، وجماعات الدين السياسي، ولهذا كان تنظيفُ البيت الإماراتي وحمايته واحداً من الأسس في رؤية الشيخ لإمارات مزدهرة ومستقرة، وذات تأثير إقليمي وعالمي، وبلد متسامح ومتعايش، قادر على أن يسهم في الاستقرار خليجياً وإقليمياً.
كتب التاريخ وسير العظماء مليئة بقصص لأفراد سادوا مجتمعاتهم وبرزوا في ملعب التاريخ في فترات مختلفة؛ قصصٍ تحكي عن أمارات مبكرة بَدَت عليهم في مرحلة اليفاع، وهي روايات متخمة بالدلالات التي تنبئ عن النجابة وصفات القيادة لأفراد أحدثوا تحولاً كبيراً في مجتمعاتهم، سياسيين أو قادة عسكريين أو علماء وفلاسفة أو مصلحين؛ ولهذا لطالما كان العنفوان وصعوبة المراس وقوة الشكيمة منذ الصغر مع فضيلة الصمت واختيار الكلمات بعناية، هي إحدى الصفات المشتركة للأفراد العظام.
إن اللحظة الراهنة مع الوباء وتبعاته المرعبة المعتادة التي اختزنتها التجربة الإنسانية من فقر ومجاعات واضطرابات، هي واحدة من أكبر التهديدات الوجودية للحكومات والأنظمة السياسية، وكان القدر أن يكون الشيخ محمد بن زايد هو القائد في بحرٍ لُجَيّ من التحديات والمخاطر. إنها استثناء تاريخي، من المؤكد أننا بعدما نتجاوزها سنحكيها لصغارنا يوماً ولأجيالنا القادمة أنها كانت أحلك اللحظات؛ ولكنها بحُسن التدبير والصبر والحكمة جعلتنا أصلب عوداً، وأنها كانت بلا امتراء أسعد الأوقات.
♦مدير “حرف آند فاصلة ميديا”
المصدر: مجلة درع الوطن
لقراءة نسخة PDF من المقالة: اضغط هنا