منصور النقيدان
قبل سنوات وقعت لشخص أعرفه قصة يحتفظ بها كأحلى الذكريات وكنت شاهداً على فصولها فالفتى التقي الذي كان يخطو نحو التاسعة عشرة، أصبح بشكل غير معتاد كثير الزيارة لإحدى بيوت الحارة الأكثر تديناً، فكان بعد صلاة العشاء ينصاع لإلحاح رب العائلة وهو شيخ كبير، لتناول العشاء معه وبقية أبنائه، شعر صاحبنا وكأن تلك الزيارات تتم وفقاً لرغبة شخص آخر.
وذات مرة لمح إحدى إناث تلك الدار اليافعات تطل عليهم من خلف فُرُشٍ وضعت في ركن المجلس وترنو ببصرها نحوه وتسارقه النظر، والجميع يتهامسون ويبتسمون، مال شقيقها الأكبر يوماً وهو يسكب الماء على يدي صاحبي عقب العشاء وهمس في أذنه: إنها العنود، لا يهدأ لها بال حتى تراك في بيتنا، ولأنها الصغرى والمحظية عند أبي، فالجميع ينصاع لرغبتها، وبعد أن نقوم برفع الصحن تسأل عن موضع أكلك من المائدة، وتختاره. ذات مرة دعي إلى البيت كالعادة ويبدو أنها شعرت بوجوده، فلاح ظلها خلف الباب ولكي يطمئن قلبها قال أخوها «إنه هو». فهدأت أنفاسها وسكنت وجثت قرب عتبة المجلس، وبعد رحيل والدتها العليلة انشغل الجميع، وتباعد صاحبنا وذبلت تلك العلاقة. ثم بهتت وتلاشت كخيط دخان.
ذات مرة جاء شاب إلى الرسول وبعد أن صلى معه أخبره أنه التقى بعشيقته في حديقة بعيداً عن أعين الناس، فكان منهما ما يكون بين العاشقين غير أنه حافظ على عذريتها، وتحت وطأة الذنب أفضى إلى النبي بذلك، فقال له «هل صليت معنا؟ قال نعم. قال قد غفر الله لك[1]».
بعض من قصص الحب هذه التي كان يعج بها مجتمع المدينة احتفظت بها كتب السنة، التفسير، وكتب التاريخ والسير، إن إحدى قصص الحب الشهيرة التي تناقلتها كتب التاريخ تلك قصة الربيع بنت معوذ مع زوجها، فالربيع التي حضر الرسول زفافها ليباركه وجلس بجوارها وهي في كامل زينتها ليلة زواجها، والنساء أمامه يغنين ويتناغين بأصواتهن العذبة، كانت إحدى أكثر نساء المدينة دلالاً وحظوة عند زوجها، لكنها كانت شرسة فقد دخلت ذات مرة في معركة بالأيدي وكسرت سن إحداهن، وبما أن صاحبة الحق طالبت بالقصاص وكسر سن الربيع كما جرى لها، فقد رفض زوج الربيع ذلك وأعلن احتجاجه على الحكم الذي أصدره الرسول وقال «والله لا تكسر ثنية الربيعة» حتى قبل أهل المرأة بالتعويض وتنازلوا عن القصاص[2].
إن من أكثر الوقائع غرابة قصة تشي بذلك التنوع الاجتماعي في المدينة فقد جاء رجل إلى الرسول يستشيره في زوجته التي يحبها ولكنها كانت سمحة مع الرجال فهي لا ترد يد لامس وتلين معهم ولا تتخذ رد فعل إزاء يد تمر عليها أو كلمة تلقى عليها، والمسكين كان بين نارين: نار الغيرة على شرفه، ونار حبه لها، فأشار عليه أن يمسكها إن كان يحبها ولا يطيق فراقها[3].
وهذه القصة بالتأكيد تسلط الضوء على شريحة اجتماعية في المجتمع المدني تكمل الصورة لمجتمع غني بالتنوع، وبالتأكيد فإن مثل هذا الشخص سيكون مزدرى من قبل شخص مثل سعد بن معاذ الذي قال والرسول يسمعه «لو رأيت رجلاً مع زوجتي على فراش واحد لضربتهما بالسيف غير مصفح»، أي لضربتهما بحد السيف وقتلتهما[4].
القلة منا يكونون على اطلاع على هذه القصص التي حفظتها كتب التراث، ومع أنها منثورة في كتب السنة إلا أن التكتم عليها والقلق الذي يظهر على بعض الخطباء والعلماء حين يأتي ذكرها، تفصح عن عدم الأمانة ورغبة دفينة بمحو هذه الوقائع والحوادث في حياة الرسول ووقعت على مرأى منه، كما في قصة مغيث وبريرة بعد انفصالهما ورفضها العودة إليه وعدم قبولها لوساطة الرسول وسادة الصحابة، وإصرار مغيث على ملاحقتها في أزقة المدينة وفي السوق ودموعه تسيل من مآقيه، والرسول يشاهده ويتألم لأجله من دون أن يستدعيه أو يوبخه، أو يكلف أبا هريرة بالتجسس عليه، أو يبعث خلفه بعمر يعلوه بالسوط حتى يشفى من سقمه، أو يمنع بريرة من الخروج من بيتها حتى يسلو مغيث[5].
جدير بأولئك المعذبين الذين أغلقت عليهم أبواب رحمة الله، وسد عليهم فقهاء التطرف منافذ الفطرة، حتى تشوهت نفوسهم وميولهم، أن يعلموا أن القبلة والخلوة بين المحبين هي من اللمم التي لا يعاقب الله عليه، وأن المجتمع المدني في حياة الرسول كان من التسامح والانفتاح بصورة لا يمكن لمزوِّرٍ طمسها.
[1] أخرجه البخاري ومسلم وفي بعض ألفاظ الحديث أن الرجل قال للرسول: إن معي امرأة، ما تركت معها حاجة ولا داجة إلا أتيتها غير أني لم أطأها. وفي رواية أنه تاجر تمور استدرجها إلى بيته برضاها، وقد أخذ منه الفقهاء ومنهم ابن عباس أن هذه الأشياء التي تقع بين المحبين من الصغائر، والصغائر يكفرها إضافة إلى الصلاة الاستغفار، والوضوء وسعة رحمة الله.
[2] أخرجه البخاري عن انس، وقد أخرج مسلم عن انس قصة قريبة منها عن أم الحارث أخت الربيع وهي أصغر منها، فإما أن القصة واحدة وقد وهم الرواة أو أن كل واحدة منهما قد وقعت لها قصة مشابهة، وهو شيء غريب حقاً، أن تكون الاثنتان خبيرتي ملاكمة مقارنة بأنس ابن أخيهما خادم الرسول وقد عاش طيلة حياته مسالماً.
[3] رواه النسائي عن ابن عباس، وقد أحدثت هذه القصة ارتباكاً عند الفقهاء فبعضهم ذهب إلى تكذيبها، وذهب بعضهم كالخطابي وابن الأعرابي إلى أن المرأة كانت لا ترد من أراد مضاجعتها. ويبدو أن الرسول حينما رأى أن الرجل من الضعف والمهانة إلى حد أن يأتي ويستشيره في امرأة هذا شأنها، خلافاً للمعروف من شيم العرب. اختار له ما يتناسب مع وسطه الاجتماعي، وقد احتفظت السنة وكتب التفسير بعدد من القصص التي تخبر عن بيوت الدعارة في المدينة في حياة الرسول كما تجده في تفسير سورة النور، على آية زولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناًس. وفي قصة المخنث في صحيح البخاري الذي كان يوصي ويصف إحدى الغانيات في مكة مثالا على ذلك.
[4] أخرجه البخاري
[5] أخرجه البخاري